فصل: فوائد لغوية وإعرابية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ}.
قوله: {لِيُدْحِضُواْ}: متعلِّقٌ بيُجَادِل والإِدْحاض: الإِزْلاق يقال: أَدْحَضَ قدمَه، أي: أَزْلَقَها وأَزَلَّها عن موضعِها، والحجة الداحضة التي لا ثباتَ لها لزلزلةِ قَدَمِها. والدَّحْضُ: الطينُ لأنه يَزْلِقُ فيه. قال:
3171- أبا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ وهِبْتَه ** وحِدْتَ كما حادَ البعيرُ الدَّحْضِ

وقال آخر:
3172- وَرَدْتُ ونَجَّى اليَشْكرِيِّ حِذارُه ** وحادَ كما حادَ البَعيرُ عن الدَّحْضِ

ومكانٌ دَحْضٌ مِنْ هذا.
قوله: {وَمَا أُنْذِرُواْ} يجوزُ في {ما} هذه أَنْ تكونَ مصدريةً، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف. وعلى التقديرين فهي عطفٌ على {آياتي}. و{هُزُوا} مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ. وتقدَّم الخلافُ في {هُزُوا}. وتقدَّم إعرابُ ما بعد هذه الآية في الأنعام.
{وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)}.
قوله: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ}: يجوز في المَوْعِد أَنْ يكونَ مصدرًا أو زمانًا أو مكانًا.
والمَوْئِلُ: المَرْجِعُ مِنْ وَأَلَ يَئِلُ، أي: رَجَعَ، وهو من التأويل. وقال الفراء: المَوْئِلُ: المَنْجى، وَأَلَتْ نَفْسُه، أي: نَجَتْ. قال الأعشى:
3137- وقد أٌخَالِسُ رَبَّ البيتِ غَفْلَتَهُ ** وقد يُحاذِرُ مِنِّي ثم ما يَئِلُ

أي: ما يَنْجُو. وقال ابن قتيبة: المَوْئل: المَلْجَأ. يقال: وَأَلَ فلان إلى فلان يَئِل وأَلًا، ووُؤُوْلًا، إذا لَجَأ إليه وهو هنا مصدرٌ.
و{مِنْ دونِه} متعلِّقٌ بالوِجْدان لأنه متعدٍّ لواحدٍ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ {مَوْئِلًا}.
وقرأ أبو جعفر {مَوِلا} بواوٍ مسكورةٍ فقط. والزُّهْري: بواوٍ مشددة فقط. والأُوْلَى أقيسُ تخفيفًا.
قوله: {وَتِلْكَ القرى}: يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأ وخبرًا، و{أهلكناهم} حينئذ: إمَّا خبرٌ ثانٍ أو حالٌ. ويجوز أن تكونَ {تلك} مبتدأ، و{القرى} صفتها أو بيان لها أو بدل منها و{أَهْلكناها} الخبرُ. ويجوز أن يكون {تلك} منصوبَ المحل بفعلٍ مقدر على الاشتغال.
والضميرُ في {أَهْلَكْناهم} عائدٌ على {أهل} المضافِ إلى القرى، إذ التقديرُ: وأهل تلك القُرى، فراعى المحذوفَ فأعاد عليه الضميرَ. وتقدَّم ذلك في أول الأعراف.
و{لَمَّا ظَلَمُواْ} يجوُ أَنْ يكونَ حرفًا، وأن يكونَ ظرفًا وقد عُرِف ما فيها.
قوله: {لِمَهْلِكِهِمْ} قرأ عاصم {مَهْلَك} بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفصٌ بكسر اللام. والباقون بفتحها. فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ قراءاتٍ، لعاصم قراءتان: فتحُ الميم مع فتحِ اللامِ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه. والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه. والثالثةُ: ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام، وهي قراءةُ الباقين.
فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف {مَهْلَك} فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه. وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافًا لمفعوله. وقال: إنَّ هَلَك يتعدَّى دون همز وأنشد:
3174- ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا

فمَنْ معمولٌ لـ: هالكٍ وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا: لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ. والأصل: هالك مَنْ تعرَِّجا. فمَنْ تعرَّج فاعلٌ بهالك، ثم أَضْمر في هالِك ضميرَ مَهْمه ونَصَب مَنْ تعرَّج نَصْب الوجهَ في قولِك: مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ. ثم أضاف الصفة وهي هالك إلى معمولها، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ، والنصبُ مِنْ رفعٍ. فهو كقولك: زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه. وقد يُقال: لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو: هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه. قال الشاعر:
3175- فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً ** والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ

وقال الهذلي:
3176- أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها ** وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ

وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه: إنه زمانٌ. ولم يذكرْ غيرَه. وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ. وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مرادًا به المصدرُ، وكسِرَتْ فيه مرادًا به الزمانُ والمكانُ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان.
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدرًا. قال: وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ. وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه. وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه، كلُّ ذلك عائدٌ هنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ. و{مُهْلَك} فيها يجوز أن يكونَ مصدرًا مضافًا لمفعولِه، وأَنْ يكون زمانًا، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ، أي: وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم.
والمَوْعِدُ: مصدرٌ أو زمان. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: {ويوم نسير الجبال} وهي الأبدان الجامدة عن السلوك، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق، وحشرنا جميع القوى البشرية {وعرضوا على ربك صفًا} لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها، فالروح في صف الأرواح، والقلب في صف القلوب، وكذا النفس وقواها. {ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة} على هيئة الفطرة، وقيل الأنبياء في صف، والأولياء في صف، والمؤمنون في صف، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير {لا يغادر صغيرة} هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات.
{ولا كبيرة} هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة {ما أشهدتهم} لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم} [الكهف: 53] {ورأى المجرمون النار} رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها {ولم يجدوا عنها مصرفًا} كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون {وكان الإنسان أكثر شيء جدلًا} فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه {وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم} أسباب الهداية {ويستغفروا ربهم} إن كانوا مذنبين {إلا أن تأتيهم سنة الأولين} من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية كقوله في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم: «والله لولا الله ما اهتدينا» {أو ما يأتيهم العذاب قبلًا} كقوله: «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» والله أعلم. م. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة في الآيات: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشى} [الكهف: 28] أمر بصحبة الفقراء الذين انقطعوا لخدمة مولاهم، وفائدتها منه عليه الصلاة والسلام تعود عليهم وذلك لأنهم عشاق الحضرة وهو صلى الله عليه وسلم مرآتها وعرش تجليها ومعدن أسرارها ومشرق أنوارها فمتى رأوه صلى الله عليه وسلم عاشوا ومتى غاب عنهم كئبوا وطاشوا، وأما صحبة الفقراء بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم ففائدتها تعود إلى من صحبهم فيهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، وقال عمرو المكي: صحبة الصالحين والفقراء الصادقين عيش أهل الجنة يتقلب معهم جليسيهم من الرضا إلى اليقين ومن اليقين إلى الرضا.
ولأبي مدين من قصيدته المشهورة التي خمسها الشيخ محيى الدين قدس سره:
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا ** هم السلاطين والسادات والأمرا

فأصحبهم وتأدب في مجالسهم ** وخل حظك مهما قدموك ورا

واستغنم الوقت واحضر دائمًا معهم ** واعلم بأن الرضا يختص من حضرا

ولازم الصمت إلا إن سئلت فقل ** لا علم عندي وكن بالجهل مستترا

إلى أن قال:
وإن بدا منك عيب فاعترف وأقم ** وجه اعتذارك عما فيك منك جرا

وقل عبيدكم أولى بصفحكم ** فسامحوا وخذوا بالرفق يا فقرا

هم بالتفضل أولى وهو شيمتهم ** فلا تخف دركًا منهم ولا ضرر

وعنى بهؤلاء السادة الصوفية وقد شاع إطلاق الفقراء عليهم لأن الغالب عليهم الفقر بالمعنى المعروف وفقرهم مقارن للصلاح وبذلك يمدح الفقر، وأما إذا اقترن بالفساد فالعياذ بالله تعالى منه فمتى سمعت الترغيب في مجالسة الفقير فاعلم أن المراد منه الفقير الصالح، والآثار متظافرة في الترغيب في ذلك فعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما موقوفًا تواضعوا وجالسوا المساكين تكونوا من كبار عبيد الله تعالى وتخرجوا من الكبر، وفي الجامع الجلوس مع الفقراء من التواضع وهو من أفضل الجهاد، وفي رواية أحبوا الفقراء وجالسوهم، ومن فوائد مجالستهم إن العبد يرى نعمة الله تعالى عليه ويقنع باليسير من الدنيا ويأمن في مجالستهم من المداهنة والتملق وتحمل المن وغير ذلك، نع إن مجالستهم خلاف ما جبلت عليه النفس ولذا عظم فضلها، وقيل: إن في قوله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين} إلخ دون ودم مع الذين إلخ إشارة إلى ذلك ولكن ذلك بالنسبة إلى غيره صلى الله عليه وسلم فإن نفسه الشريعة فطرت على أحسن فطرة وطبعت على أحسن طبيعة.
وقال بعض أهل الأسرار: إنما قيل: واصبر نفسك دون واصبر قلبك لأن قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم كان مع الحق فأمر صلى الله عليه وسلم بصحبة الفقراء جهرًا بجهر واستخلص سبحانه قلبه له سرًا بسر {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي مذمومة مع الميل إليهم والتواضع لغناهم، وقد جاء في الحديث: «من تذلل لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه فليتق الله تعالى في الثلث الآخر» ومضار مجالستهم كثيرة، ولا تخفى على من علم فوائد مجالسة الفقراء، وأدناها ضررًا تحمل منهم فإنه قلما يسلم الغني من المن على جليسه الفقير ولو بمجرد المجالسة وهو حمل لا يطاق، ومن نوابغ الزمخشري طعم الآلاء أحلى من المن وهي أمر من الآلاء عند المن، وقال بعض الشعراء:
لنا صاحب ما زال يتبع بره ** بمن وبذل المن بالبر لا يسوي

تركناه لا بغضًا ولا عن ملالة ** ولكن لأجل المن يستعمل السلوى

{وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] نهى عن إطاعة المحجوبين الغافلين وكانوا في القصة يريدون طرد الفقراء وعدم مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم لهم لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فلا يطاع عند أهل الإشارة الغافل المحجوب في كل شيء فيه هوى النفس، وعدوا من إطاعته التواضع له فإنه يطلبه حالًا وإن لم يفصح به مقالًا {وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29] قالوا: فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين، وعدم من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال: إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيان ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل:
ألا فاسقني خمرًا وقل لي هي الخمر ** ولا تسقني سرًا إذا أمكن الجهر

وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ** فلا خير في اللذات من دونها ستر

ولايخفى أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو:
إني لأكتم من علمي جواهره ** كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن ** إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به ** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمى ** يرون أقبح ما يأتونه حسنًا

نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور، وما أحسن قول الشهاب القتيل:
وارحمتا للعاشقين تكلفوا ** ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم ** وكذا دماء البائحين تباح

وإذا هم كتموا يحدث عنهم ** عند الوشاة المدمع السحاح

وما ذكر أولًا يكون مستمسكًا في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سببًا لضلال كثير من الناس وداعيًا للإنكار عليهم، وقد استدل بعض الآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر.
وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قاسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم.
واعترض بأن لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر.
وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق، وفهي نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وإضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لاسيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر، ولذا ترى كثيرًا من الناس ينكروه عليه ويكرون، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمسًا في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله:
ينكر المرء منه أمرًا فينها ** ه نهاه فينكر الإنكارا

تنثني عنه ثم تثنى عليه ** ألسن تشبه الصحاة سكارى

{يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} قيل هي إشارة إلى أنهم يحلون حقائق التوحيد الذاتي ومعاني التجليات العينية الأحدية {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} إشارة إلى أنهم متصفون بصفات بهيجة حسنة نضرة موجبة للسرور {مِن سُندُسٍ} الأحوال والمواهب وعبر عنها بالسندس لكونها ألطف {وَإِسْتَبْرَقٍ} الأخلاق والمكاسب، وعبر عنها بالاستبرق لكونها أكثف {مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الارائك} [الكهف: 31] قيل أي أرائك الأسماء الإلهية {واضرب لهُمْ مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ} إلخ فيه من تسلية الفقراء المتوكلين على الله تعالى وتنبيه الأغنياء المغرورين ما فيه، وقال النيسابوري: الرجلان هما النفس الكافرة والقلب المؤمن {جَعَلْنَا لاِحَدِهِمَا} وهو النفس {جَنَّتَيْنِ} هما الهوى والدنيا {مّنْ أعناب} الشهوات {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} حب الرياسة {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف: 32] من التمتعات البهيمية {وَفَجَّرْنَا خلالهما نَهَرًا} [الكهف: 33] من القوى البشرية والحواس {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} من أنواع الشهوات {وَهُوَ يحاوره} أي يجاذب النفس {أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا} أي ميلًا {وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] من الأوصاف المذمومة {وَهُوَ ظَالِمٌ لّنَفْسِهِ} [الكهف: 35] في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى {لأجِدَنَّ خَيْرًا مّنْهَا} [الكهف: 36] قال ذلك غرورًا بالله تعالى وكرمه {فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42] من العمر وحسن الاستعداد انتهى.
وقد التزم هذا النمط في أكثر الآيات ولا بدع فهو شأن كثير من المؤولين {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا} قال ابن عطاء: للطالبين له سبحانه لا للجنة {وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 44] للمريدين {والباقيات الصالحات} [الكهف: 46] قيل هي المحبة الدائمة والمعرفة الكاملة والأنس بالله تعالى والإخلاص في توحيده سبحانه والانفراد به جل وعلا عن غيره فهي باقية للمتصف بها وصالحة لا إعوجاج فيها وهي خير المنازل، وقد تفسر بما يعمها وغيرها من الأعمال الخالصة والنيات الصادقة {وَيَوْمَ نُسَيّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] قال ابن عطاء: دل سبحانه بهذا على إظهار جبروته وتمام قدرته وعظيم عزته ليتأهب العبد لذلك الموقف ويصلح سريرته وعلانيته لخطاب ذلك المشهد وجوابه {وَعُرِضُواْ على رَبّكَ صَفَّا} إخبار عن جميع بني آدم وإن كان المخاطب في قوله سبحانه: {بَلْ زَعَمْتُمْ} إلخ بعضهم، ذكر أنه يعرض كل صنف صفًا، وقيل الأنبياء عليهم السلام صف والأولياء صف وسائر المؤمنين صف والمنافقون والكافرن صف وهم آخر الصفوف فيقال لهم: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48] على وصف الفطرة الأولية عاجزين منقطعين إليه سبحانه {وَوُضِعَ الكتاب} أي الكتب فيوضع كتاب الطاعات للزهاد والعباد وكتاب الطاعات والمعاصي للعموم وكتاب المحبة والشوق والعشق للخصوص، ولبعضهم:
وأودعت الفؤاد كتاب شوق ** سيشر طيه يوم الحساب

{وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا} [الكهف: 49] قال أبو حفص: أشد آية في القرآن على قلبي هذه الآية {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السموات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف: 51] قيل أي ما أشهدتهم أسرار ذلك والدقائق المودعة فيه وإنما أشهد سبحانه ذلك أحباءه وأولياءه {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شيء جَدَلًا} [الكهف: 54] لأنه مظهرًا الأسماء المختلفة والعالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، هذا والله تعالى أعلم بأسرار كتابه. اهـ.